مقدمة :
باختيار المغرب المقاربة بالكفايات كمدخل لمراجعة المناهج التعليمية، وإعادة النظر في الممارسات والأساليب التربوية السائدة في أقسامنا الدراسية، نكون قد وصلنا إلى مرحلة من تاريخ نظامنا التعليمي، أصبحنا نتوفر فيها على مرجعية بيداغوجية موحدة وواضحة المعالم إلى
حد ما .
إلا أن هذا الاختيار البيداغوجي، لن يكون له المفعول المنتظر إلا ‘ذا حقق تغييرا فعليا، و أسفر عن تعديل ليس فقط للمناهج. ولكن أيضا تعديل يطال الممارسات وطرق الاشتغال داخل الأقسام والفصول الدراسية. فإذا لم تصبح المقاربة بالكفايات، قناعة فكرية ومواقفية للمدرس، وأداة لتعامله مع معطيات العملية التعليمية،ستبقى هذه المقاربة مجرد قفز على المفاهيم البيداغوجية الجديدة. بهدف خنق حمولاتها العلمية ومحاصرة ما ينطوي عليه توظيفها الحقيقي، من إمكانيات تغيرية حقيقية.
والحالة هذه، لقد شرعت وزارة التربية الوطنية في المراجعة التدريجية للمناهج المدرسية، ودخل مفهوم الكفاية إلى ساحة التعليم، إلا أن هذا المفهوم لازال مجهولا لدى معظم الممارسين إما لنقص في الاطلاع الذي هو مهمة من المهام الأساسية للتكوين المستمر أو نتيجة لمقاومة التغيير الذي تبديه بعض الفئات المنتمية لأولئك الممارسين. وفي ظل هذا الوضع، يبقى السؤال الأساسي مطروحا : كيف ستتبلور المقاربة بالكفايات إذا كان المدرس لا يعمل بها ؟ وكيف ستتشكل الكفايات التواصلية والثقافية والاستراتيجية والمنهجية والتكنولوجية التي تتحدث عنها الوثائق الرسمية وتصبح بالتالي جزءا من مواصفات المتعلم المغربي ؟
المدرس المغربي كغيره من مدرسي العالم لا يقدم على تغيير ممارساته وأساليب عمله لمجرد اطلاعه على " توجيهات رسمية ". ولكنه يحتاج للقيام بذلك إلى تكوين مستمر مبني بالأساس على توجهات لتعديل المواقف وترسيخ القناعات الجديدة.
وبإقدامنا على تأليف هذا الكتاب حول " المقاربة بالكفايات في سياق درس العلوم، سعينا، بالدرجة الأولى إلى مخاطبة الممارسين في الحقل التعليمي من خلال تمكينهم من الوقوف على ما توصلت إليه ديداكتيكا العلوم من أفكار ومعلومات علمية، يمكن أن تسعفهم في التعامل الواعي والنقدي مع متطلبات الدرس العلمي منظورا إليه من خلال مقاربة بيداغوجية تتبنى الكفاية كمدخل رئيسي.
ففي الفصل الأول من الكتاب، حرصنا على إبراز الصلات المختلفة التي تربط بين البحث الديداكتيكي و الإبستمولوجيا و سيكولوجيا التعلم. و بذلك توخينا الوصول إلى ترسيخ القناعة بأن التفكير في طرق و أساليب العمل التربوي، لم يعد مجرد تأمل، و إنما أصبح تفكيرا علميا، مبني بالأساس على البحث و الاستقصاء.
و في إطار الفصل الثاني حاولنا التطرق إلى بعض المفاهيم الديداكتيكية الأساسية، فركزنا بالأساس، على مفهوم التحويل الديداكتيكي و ما يتضمنه من تضمينات نظرية و أداتية تتيح إمكانية نقل المعرفة العالمة إلى معرفة مدرسية وظيفية مشروطة بالمعطيات المؤسسة
و السوسيولوجية للمدرسة. و في سياق نفس الفصل تعرضنا إلى مفاهيم أخرى و أولينا الاهتمام الخاص للمفهوم العلمي موضحين أهم تحديداته
و خصائصه و وظائف و وسائل بنائه و إنتاجه.
كما تناولنا مفهوم التمثلات الذي يمكن أن يعد مفهوما مفتاحا يتيح حين توظيفه في بناء المعرفة العلمية لدى المتعلم، إمكانية جعل هذا البناء ممكنا و فعالا.
أما مفهوم العقد الديداكتيكي، فقد أبرزنا محوريته على مستوى العلاقة التربوية بين المدرس و المتعلم، و بيننا ما ينتج عن الإخلال به من آثار سلبية على عملية التعلم .
أما الفصل الثالث، فقد ارتأينا أن نخصصه لتناول مفهوم الكفاية محاولين بذلك، رفع الكثير من الالتباسات و حالات الغموض التي تعتري هذا المفهوم و التي نجمت عن العديد من الكتابات المتسرعة المطروحة في الساحة الفكرية. و لم نكتف بالتعريف، بل حاولنا أن نتفحص بإيجاز مختلف التضمينات التي طبعت مفهوم الكفاية في المناهج و الوثائق الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية .
و في نهاية نفس الفصل، خصصنا جانبا من الكتاب لتوضيح دلالة " الكفاية " في سياق الدرس العلمي، و ما يترتب عليه من تغييرات في تنظيم و هيكلة و تخطيط الوضعيات التعليمية التعلمية المرتبطة بتدريس المفاهيم العلمية .
و في الفصل الرابع و الأخير، حاولنا تزويد القارئ أو المدرس بجملة من التقنيات و البطاقات التقنية التي تتناول جوانب متنوعة من الدرس العلمي، كبناء المفهوم و بناء الأنشطة أو كيفية الربط بين هذه الأخيرة و مفهوم الكفاية في العلوم، و طريقة بناء أو تنظيم الوضعية المشكلة و حاولنا أن تكون هذه الجوانب مطروحة على شكل خطاطات أو بطاقات عملية، يمكن أن يوظفها المدرس كأدوات عمل لإنجاز بعض الممارسات
و المهمات التعليمية التي تدخل في نطاق أدائه المهني المتنوع.
أملنا أن نكون وفقنا في تلبية بعض من حاجات الممارس أو الدارس من خلال تأليف هذا الكتاب و أن يشكل مساهمة من المساهمات الفكرية المنتظرة لتطوير ممارساتنا المهنية في حقل التعليم و تحريك الجوانب الراكدة فيها .
الفصل الأول :
السيكولوجيا و الإبستمولوجيا و ديداكتيك العلوم
I. ما هي السيكولوجيا و الإبستمولوجيا و ديداكتيك العلوم ؟
|
1. طبيعة العلاقة :
أن يرتبط التفكير الديداكتيكي بمفاهيم سيكولوجية وإبستمولوجية، فهذا أمر ليس بجديد، فلدينا،في تاريخ الأفكار البيداغوجية شواهد متعددة تدل على ذلك. فعندما اقترح سقراط طريقة الحوار التوليدي كوسيلة متدرجة لاكتشاف المعرفة، فإنه لم يفعل ذلك إلا لأنه استند ابستمولوجيا، إلى فكرة تقول بوجود الحقائق المطلقة و الخالدة، و بالطبيعة الفطرية لهذه الحقائق و إمكانية توليدها من خلال حوار تدريجي مع الإنسان مهما كانت درجة انتمائه في السلم الاجتماعي.
و حين اقترح ديكروليDécroly ما سماه بالطريقة الكلية méthode globale كأفضل السبل لتدريس القراءة، فإن اقتراحه هذا لم يأت من الفراغ و إنما اعتمد فيه على ما توصلت إليه المدرسة الغشتالتية Gestalisme بخصوص عملية الإدراك، كنشاط كلي .
و لا زال الأمر منطبقا إلى الآن، فما قدمه الباحث كارل روجرس C. Rogers تحت عنوان "البيداغوجيا اللاتوجيهية" non-directivité لم يكن، في واقع الأمر، إلا امتدادا بيداغوجيا لما توصل إليه، كمعالج نفساني، من تحليلات و أبحاث و معاينات اختار أن يطلق عليها تسمية العلاج النفسي "المتمركز جول الزبونCentré sur le client " .
غرضنا من هذه الأمثلة هو أن نبرز أن العلاقة بين التفكير البيداغوجي- الديداكتيكي تجاوزا - لم تكن وليدة اليوم، بل إنها كانت على الدوام، علاقة كامنة وراء العديد من "البيداغوجيات" التي اقترحت لتدبير العلاقة بين المدرس و المتعلم و خاصة في ظل التعليم المدرسي الحديث.
غير أن هذه العلاقة لا تعني وجود "علم ديداكتيكي" قائم الذات لأن معظم الاقتراحات المنهجية التي وضعها بعض البيداغوجين لم تكن، في الواقع، إلا محاولات استنباطية يغلب عليها الطابع النظري، بل حتى الاقتراحات " العملية " لم تكن لتصل إلى "بيداغوجيات" تجريبية بالمعنى العلمي للكلمة، لأنها صدرت في معظمها عن آراء و تجارب شخصية، الشيء الذي جعل ج. دولاندسيرDelandsheere ينعتها بالبيداغوجيا المجربةExperienciée، تميزا لها عن البيداغوجيا التجريبيةExpérimentale .
2. من البيداغوجيا التجريبية إلى الديداكتيك :
من الضروري أن نقيم تمييزا واضحا بين البيداغوجيا التجريبية
و الديداكتيك. فلقد اعتاد البيداغوجيون أن يستندوا في بناء فرضياتهم على نظريات سيكولوجية، و خاصة النظريات التي تهتم بالنمو العقلي أو الوجداني أو النفسي - الحركي للأطفال. و بذلك ظلت البيداغوجيا وفية، في معظم أبحاثها، لجذورها الاشتقاقية ( طفل = (peidos و تدل على ذلك حتى الشواهد التاريخية التي أتينا على ذكرها سابقا. و إذا كنا قد تحدثنا في نفس السياق عن التفكير الديداكتيكي فقد حرصنا على استعمال لفظة تفكير réflexion ، متحاشين بذلك، الحديث عن الديداكتيك كعلم
و واضعين في عين اعتبارنا،و لو بطريقة ضمنية، أن كل اقتراح بيداغوجي، حتى و لو انطلق من تصور سيكولوجي، هو في ذات الوقت اقتراح ديداكتيكي، و أن العلاقة بينهما هي، بالضبط علاقة الجزء بالكل.
البيداغوجيا التجريبية هي إذن ديداكتيك، ينقصها جزء مهم، وهو التساؤل الإبستمولوجي حول طبيعة المعرفة، أي محتوى التعلم. إذ لا يكفي تقديم طريقة في التدريس أو في تنظيم و بناء المقررات… معتمدين في ذلك فقط على السؤال " كيف يتعلم الشخص ؟ " و لكن لابد من طرح السؤال المكمل " و ماذا يفرض تعلم المعرفة من أدوات و مناهج و وسائل؟" بل و لربما امتدت التساؤلات إلى السياق السوسيوثقافي الذي تجري فيه عملية التعلم ذاتها .
و حتى تصبح الديداكتيك علما، بالمعنى الحقيقي للكلمة كان لا بد من أن يحاول الباحثون أن يؤسسوا أبحاثهم، ليس فقط على التقليد أو النزعة الاختبارية Empirisme، و إنما على مقاربة عقلانية للأسئلة المطروحة … مقاربة معتمدة على متن من الفرضيات البيداغوجية étayés مقاربات إبستمولوجية و سيكولوجية "1.
و ربما لن يكون ذلك كافيا، لتأسيس هذا العلم الذي يحاول وضع نماذج و طرائق لتدبير النشاط العليمي- التعلمي بل لابد أن ينضاف إلى ذلك كله، حس تجريبي لفحص الفرضيات و إثبات صلاحية validité الطرائق و النماذج و التقنيات الموضوعة أو المقترحة. و لكي تكتمل الصورة على هذا النحو، كان لا بد من الانتظار إلى حدود الستينات من القرن العشرين، حتى يصل البحث الديداكتيكي إلى مستوى محترم من النضج العلمي و يتم الاعتراف به من الناحية المؤسسة الأكاديمية، و ليس في هذا القول أي اقصاء للاعمال العلمية ذات الطابع الديداكتيكي التي قام بها ممهدون من أمثال Meunann و لاي lay منذ نهاية القرن التاسع العشر، أو معاصرون من أمثال تورندايك1 و غيرهم. و لكن لابد من التأكيد هنا على النزعة التجريبية المغالية لهذه الأعمال و ما تلاها،و على اقتصارها في بناء الفرضيات الديداكتيكية المختلفة على النماذج و التصورات السيكولوجية بالدرجة الأولى .
1 – A. Giodan. Astolfi et al, l’élève et / ou les connaissances scientifiques, (1983) cité par
Astolfi et al, la dédactique des sciences, (1989) .6.
1 – A. Giodan. Astolfi et al, l’élève et / ou les connaissances scientifiques, (1983) cité par
Astolfi et al, la dédactique des sciences, (1989) .6.